هوية  منادي  السيدة مريم
  • ما الذي ألجأ مريم إلى ذلك المكان الذي ولدت فيه وليدها؟
  • لأي سبب ناداها المنادي؟
  • من هو ذلك المنادي أصلا؟!
  • ما دلالة ندائه من تحتها؟

___

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِياًّ (مريم 25-26)

شرح الكلمات:

تحتَكِ: كلمة «تحت» هي ضد فوق، كما تعني الناحية السفلى لأنها تكون إلى جهة الأسفل. فمثلا إذا كنت ماشيًا على جبل فإن الناحية التي ينحدر إليها الجبل تكون تحتك، كما أن المكان الذي أنت واقف فيه أيضًا يكون تحتك.

سَرِيًّا: مِن سرَى يسري، وقوله تعالى قد جعَل ربُّكِ تحتكِ سريًّا أي نهرًا يسري. وقيل: بل ذلك مِن السَّرْو أي الرفعة. (انظر المفردات)

هُزِّي: الهزّ: تحريك الشيء. وهُزّي إليك بجذع النخلة أي حَرِّكِي (انظر لسان العرب).

التفسير:

لقد انتقلت أذهان المفسرين من قول الله تعالى قد جعل ربك تحتك سريًّا إلى التحت الذي يكون تحت قدم المرء. فيقولون لأن عيسى كان تحت مريم عند ولادته فهو الذي ناداها من تحتها (روح المعاني)، بينما قال البعض إن الملاك ناداها من جهة أرجلها (الدر المنثور).

مما لا شك فيه أن المنادي هو الملاك، ولكن من الغباء القول أن الملاك ناداها من الجهة التحتانية من جسدها. إنما المراد أن الملاك ناداها من جهة منحدر الأرض وأخبرها أن هنا ماء. ذلك أن المكان الذي وُلد فيه عيسى كان في سفح جبل وكانت في الأرض المنخفضة هناك عين ماء، حيث تتضح لنا من الإنجيل أن مريم ولدت ابنها في بيت لحم التي تقع على رأس جبل يبلغ ارتفاعه 2350 قدمًا من سطح البحر. وهناك وديان خضراء حولها، وهي أكثرُ الأماكن خضرةً في منطقة يهوذا كلها، وأن بها ثلاثة عيون للماء وتسمى عيون سليمان. وهذه العيون تمد مدينة بيت لحم بالماء. وهذا يعني أن لا ماء في المدينة، وإنما تُجلب المياه من عين سليمان عبر الأنابيب. وهناك عين ماء في الجهة الشرقية الجنوبية من المدينة عند السفح على بعد نصف ميل (قاموس الكتاب المقدس للدكتور جورج).

فالمراد من قوله تعالى فناداها مِن تحتها أن مريم سمعت الصوت من الناحية التي فيها عين ماء. ذلك أن المرء يعرف المكان من جهة الصوت أيضًا. فمثلاً لو ناداك أحد من شمالك لعرفت على الفور أن الصوت قادم من جهة الشمال وليس من جهة اليمين. فلكي يدل مريمَ على مكان الماء ناداها الملاك من منحدر الجبل. وليس المراد أنه ناداها من تحت جسدها. والتاريخ الجغرافي لهذه المنطقة أيضًا يدل على وجود عيون ماء فيها.

الواقع أن الإنجيل يخبرنا أن مريم لما ذهبت إلى بيت لحم لم تجد مكانًا للمبيت داخل المدينة، فباتت خارجها. كما يضيف الإنجيل أنها باتت في المكان الذي كان الرعاة يرعون فيه مواشيهم (لوقا 2: 8). ومن المعروف أن الرعاة يرعون المواشي على مسافة من المدن. ومن أجل ذلك ورد في الإنجيل أنهما أضجعا الوليد في مذود. فثبت أنهما باتا في مكان بين المدينة والعيون. وربما فكرت مريم أنها لو أقامت في المدينة لقال الناس لمن هذا الوليد، فالأفضل أن يقيما خارج المدينة. فأقامت على بعد منها حيث العيون التي لم يكن لها علم بوجودها لكونها غريبة في تلك المنطقة، فأخبرها الله تعالى بواسطة الملاك أن هناك عين ماء في الجهة الفلانية.

ولربما أراد الله تعالى بذلك إثبات مماثلة بين المسيح وإسماعيل عليهما السلام، فإن الأخير أيضًا لما تُرك في أرض مكة نادى الملاك أُمَّه أن الله تعالى قد فجّر عينًا تحت رجلي ولدك.

على كل حال، لقد كان هذا آية من الله تعالى، حيث أخبر مريم وقت الشدة والحزن أن هناك عين ماء يمكن أن تسدّ به حاجتها.

إن المفسرين عندنا يفسرون قوله تعالى قد جعَل ربُّك تحتكِ سَرِيًّا أن الله تعالى قد خلق تحتك طفلاً رائعًا، أي أن ولدك هذا سيكون لـه شأن، بينما قال بعضهم أن هذا بيان لعظمة المسيح الخارقة (الرازي). والواقع أن عند المفسرين ولعًا غريبًا لمدح المسيح ونسج القصص لتعظيمه في كل مناسبة وأخرى. فإذا كان الحديث عن ولادته قالوا: إن المسيح هو المولود الوحيد في الدنيا الذي لم يمسه الشيطان عند الولادة، وإذا ذُكر موته قالوا أن الله تعالى رفعه إلى السماء حيًّا. وهذا المعنى الذي يذكرونه لقوله تعالى قد جعل ربك تحتكِ سريًّا نتيجة لعقليتهم القديمة هذه. مع أن الأمر واضح تمامًا. كانت مريم وولدها بحاجة إلى الماء من أجل النظافة عند الوضع، ففكّرت من أين تجد الماء لغسل الثياب والمولود، فناداها الملاك أن الماء موجود عند منحدر الجبل، فيمكنها أن تسدّ حاجتها منه. ووجود عيون عند منحدر الجبل ببيت لحم ثابت جغرافيًّا.

ثم في الآية التالية يقول الله تعالى فكُلي واشربي وقَرِّي عينًا . فبما أن الله تعالى قد ذكر النخلة من قبل، فالمراد كلي الآن من ثمر النخلة، واشربي من عين الماء، ونظفي به الثياب والمولود وافرحي. وهذا يدل بكل وضوح أنه ليس في لفظ سريًّا ما يدل على رفعة المسيح، بل يفيد وجود العين. كانت عند منحدر الجبل عين ماء، فقال الله لها كلي من ثمر النخل، واشربي من ماء العين، وقرّي عينًا.

هنا نواجه معضلة كبيرة لا بد لنا من حلها. إن التاريخ المسيحي يقول لنا أن المسيح وُلد في 25 ديسمبر، ويقول لوقا إن أوغسطسَ قيصرَ كان قد أصدر في تلك الأيام أمرًا بإحصاء سكان مملكته، فذهب يوسف مع مريم من الناصرة إلى بيت لحم من أجل التسجيل، وهنالك وُلد المسيح (لوقا 2: 1-5). وهذا يعني أن المسيح وُلد في بيت لحم أيام الإحصاء الأول في 25 ديسمبر. ولكن القرآن الكريم يعلن أن المسيح قد وُلد في الأيام التي تثمر فيها النخل. والنخل لا تثمر في شهر ديسمبر إلا نادرًا، وتثمر في شهرَي يوليو وأغسطس بكثرة. وعندما نجمع بين هذا وبين إخبار الله تعالى لمريم بعين ماء لتنظف به ثيابها وتغسل مولودها، لتبين لنا أن الولادة تمت في الحقيقة في يوليو أو أغسطس، لا في ديسمبر. ذلك أن غسل الوليد الجديد بماء العين في شهر البرد القارس، وخاصة على جبل واقع في شمال الجزيرة العربية لأمرٌ مخالف للعقل تمامًا. ولكن التاريخ المسيحي ينص على أن ولادة المسيح في شهر ديسمبر. فهناك تعارض واضح بما ورد في تاريخهم وما يعلنه القرآن الكريم بأن الملاك قال لمريم وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلة تساقطْ عليكِ رُطَبًا جنيًّا[، مع أن الرطب لا توجد في شهر ديسمبر إلا نادرًا، وتوجد بكثرة في شهري يوليو وأغسطس. فإذا كان صحيحًا أن المسيح قد وُلد في ديسمبر فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ذكر القرآن الرطب مع أنها لا توجد في ذلك الموسم؟

وخوفًا من هذا الاعتراض نفسه قال المفسرون عندنا أن مريم ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليه أثناء الوضع. لقد فكروا أن المسيحيين يقولون أن المسيح قد وُلد في ديسمبر، والنخل لا تحمل الرطبَ في ذلك الشهر إلا قليلا؛ فلماذا ذهبت إلى النخلة التي لم يكن بها ثمر؟ فأجابوا على ذلك أنها ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليه، غاضّين الطرف عما قال الله تعالى بعد ذلك في القرآن الكريم وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَبًا جنيًّا ! فلأن المفسرين سمعوا من المسيحيين أن المسيح وُلد في ديسمبر، ولأن النخل لا تثمر الرطب في ديسمبر إلا قليلا، فقالوا أن مريم ذهبت إلى جذع النخلة التي جف ثمرها لتستند إليه.

مما لا شك فيه أن المنادي هو الملاك، ولكن من الغباء القول أن الملاك ناداها من الجهة التحتانية من جسدها. إنما المراد أن الملاك ناداها من جهة منحدر الأرض وأخبرها أن هنا ماء. ذلك أن المكان الذي وُلد فيه عيسى كان في سفح جبل وكانت في الأرض المنخفضة هناك عين ماء، حيث تتضح لنا من الإنجيل أن مريم ولدت ابنها في بيت لحم التي تقع على رأس جبل يبلغ ارتفاعه 2350 قدمًا من سطح البحر. وهناك وديان خضراء حولها، وهي أكثرُ الأماكن خضرةً في منطقة يهوذا كلها، وأن بها ثلاثة عيون للماء وتسمى عيون سليمان. وهذه العيون تمد مدينة بيت لحم بالماء. وهذا يعني أن لا ماء في المدينة، وإنما تُجلب المياه من عين سليمان عبر الأنابيب. وهناك عين ماء في الجهة الشرقية الجنوبية من المدينة عند السفح على بعد نصف ميل

بيد أن بعض المفسرين فكروا في قول الله تعالى وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلة تُساقِطْ عليكِ رُطَبًا جنيًّا * فكلي واشربي[، فقالوا أن ذلك معجزة. فكانت مريم تهزّ النخلة التي لا ثمر بها، فكانت تساقط عليها رطبًا جنيًّا! (تفسير الرازي، وأضواء البيان)

والمشكلة الثانية التي نواجهها هي أن هذا الحادث وقع في منطقة يهوذا. والقرآن الكريم يذكر هنا النخل، ولكن تاريخ التوراة يذكر الزيتون واللوز والعنب بين مزروعات منطقة يهوذا، ولا ذكرَ فيها للنخل (قاموس الكتاب: تحت بيت لحم ص 166). والأغرب من ذلك أن العنب واللوز والزيتون لا تثمر في ديسمبر. وهذا يعني أن القرآن الكريم يذكر الرطب، وهي لا تكون في ديسمبر إلا قليلا؛ أما تاريخ التوراة فيذكر الزيتون واللوز والعنب كمزروعات منطقة يهوذا، ولا تذكر النخل من بينها، ثم إن هذه الثلاثة أيضًا لا توجد في ديسمبر.

حينما نعود وندرس التاريخ ثانية نجد أن لوقا قد أخطأ في تحديد زمن الإحصاء الأول للسكان. إذ يقول إن يوسف ومريم ذهبا من الناصرة إلى بيت لحم بهدف التسجيل. ولكن دراسة تاريخ روما تكشف لنا أن العام الذي وُلد فيه المسيح لم يجر فيه أي إحصاء على الإطلاق. يقول جوزيفوس، وهو أكبر مؤرخ من زمن المسيح، أن الإحصاء الأول قد جرى في العام السابع بعد الميلاد، ولم يقع قبل ذلك أي إحصاء إطلاقًا. ويضيف جوزيفوس أن الإحصاء كان أمرًا غريبًا لليهود حتى قالوا في حيرة ودهشة: ماذا يريدون من ذلك؟ (الموسوعة التوراتية مجلد 1: Chronology) فلو كان الإحصاء قد جرى قبل ذلك بسبع سنوات أيضًا لما استغربوا عند الإحصاء الثاني.

كما يتضح من التاريخ أنه عند وفاة الملك هيرودس (Herod) كان كونستيلس واروس واليًا على تلك المنطقة، وليس كيرينيوس (Quirnius) كما يقول لوقا. بل يتضح من التاريخ الرومي أن الواليينِ اللذين سبقاه هما تيتنيوس (Titnis) وسينتينيوس (Sentinis)، وقد حكَم الأولُ في العام العاشر قبل الميلاد، بينما حكَم الثاني ما بين التاسع والسادس قبل الميلاد (المرجع السابق). وقد ثبت بذلك أنه لم يكن قبل ولادة المسيح بعشر سنوات وحتى وفاة هيرودس أيُّ والٍ اسمه كيرينيوس (Quirnius). فإذا لم يكن في هذه السنين أي وال بهذا الاسم، وإذا لم يجر في تلك الفترة أي تسجيل بحسب المؤرخ جوزيفوس، فثبت أن الذاكرة قد خانت لوقا، فالتبست الأحداث عليه. فإما أنه سمع عن الإحصاء الأول الذي جرى بعد سنين كثيرة، فظن أنه قد حصل قبل ذلك وأن يوسف ومريم سافرا إلى بيت لحم لذلك الإحصاء، فربط حدث ولادة المسيح بذلك السفر؛ أو أنه قد خلط الأحداث وزيّفها عمدًا؛ وهذه هي الحقيقة.

والآن أخبركم بما يدل على أن بيان القرآن هو الحق.

الأمر الواقع أن السيدة مريم حملت من غير زوج، فأثار خطيبها ضجة أن الحمل ليس منه. فأمره الله تعالى في الرؤيا أن يأخذ مريم إلى بيته، لأن ما تقوله هي صدق وحق. فاطمأن صاحب الرؤيا بأن خطيبته لم ترتكب أي فاحشة، ولكن أهل المدينة لا يمكن أن يطمئنوا، بل كل من يسمع بولادة المولود سيقول إنه ولد الحرام. وليس بوسع أي زوج أن يتحمل اتهام الناس لزوجته بالفاحشة. فلأنه كان يخاف العار، فمكث في بيته مع مريم ثلاثة أو أربعة أشهر أمكن فيها إخفاء الحمل، فلما رأى أن كتمانه مستحيل، ذهب بمريم إلى منطقة بعيدة عن مدينته، حيث وُلد المولود.

أما المشكلة التي واجهت لوقا في بيان هذه الحقيقة فهي كالآتي: لم ير لوقا معجزة كافية في ظهور الملاك لمريم وتبشيره إياها بالحمل، فأراد أن يضيف إلى ذلك بعض معجزات المسيح أيضًا، ليعطي انطباعًا أن مريم ما إن حملتْ بالمسيح حتى أخذت معجزات ربِّهم في الظهور بدون توقف. فيقول مثلاً أن مريم الحامل لما ذهبت لزيارة زوجة زكريا قالت الأخيرة: «فمِن أين لي هذا أنْ تأتي أمُّ ربي إليّ». وأضافت قائلة: «فهوذا حين صار صوتُ سلامِك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني» (لوقا 1: 43-44). فإذا كانت معجزات المسيح أخذت في الظهور من حين الحمل فما الحاجة إلى إخفاء الحمل يا تُرى؟ ولكن الأحداث الحقيقية كانت تؤكد أن يوسف ومريم مكثا خارج مدينتهما لفترة طويلة. لا شك أن رؤيا يوسف برّأت ساحة مريم عنده، ولكن هذه الرؤيا ما كانت لتدفع عنه اللوم الذي كان سيلقاه من قبل القوم. ومن أجل ذلك أقام مع مريم طالما أمكن إخفاء الحمل، ولما رأى أن إخفاء حملها أصبح أمرًا مستحيلاً أخذها إلى مكان بعيد، لكي لا يتعرض للوم القوم ولكي يولد الوليد خارج المدينة. ولكن لوقا كان يهدف التأكيد على ألوهية المسيح، فراح يعزو إليه المعجزات منذ أن حملته مريم، وقال أن زوجة زكريا قالت لمريم الحامل حين جاءت إليها ها قد جاءتني أم ربي، بل قال إن يوحنا نفسه بدأ يركض فرحًا وهو في بطن أمه. فظن لوقا أنه إذا ثبت ذهاب مريم بعيدًا عن أهلها بسبب الحمل لقال الناس أن مريم وزوجها خافا لومة اللائمين رغم مشاهدتهما كل هذه الآيات والمعجزات؛ ولكن ما كان بوسعه، من ناحية أخرى، أن ينكر ذهابهما بعيدًا عن أهلهما؛ فكان عليه أن يرد على سؤال هام وهو: إذا كان الحمل معجزة من الله تعالى، وإذا كانت معجزات المسيح قد بدأت تظهر منذ لحظة الحمل، فما الداعي لإخفاء ذلك الحمل؟ وإذا لم يكن هناك داع لإخفائه فلماذا ذهبا بعيدًا عن أهلهما؟ فلكي يتفادى لوقا هذا الاعتراضَ أوجد من عنده مبررًا لسفرهما إلى بيت لحم، فربَط سفرهما بحادث الإحصاء الذي تم في الواقع بعد سبع سنوات من ولادة المسيح، فأوهم الناسَ أنهما لم يذهبا إلى بيت لحم إخفاءً للحمل، وإنما من أجل الإحصاء الذي لم يكن لهما بد من السفر من أجله.

فبناءً على التاريخ الرومي، يمكننا القول إن لوقا حاول كتمان الحق، إذ لم يجر ذلك الإحصاء في ذلك العام، ولم يسافر يوسف ومريم عندئذ من أجل التسجيل، وإنما ذهبا إخفاءً للولادة. وهذا هو الأمر الواقع أيضًا. فإن يوسف قد أتى بمريم إلى بيته بناءً على أمر الله تعالى، ولكنه لما رأى أن إخفاء الحمل أصبح مستحيلاً، وأنه سيتعرض الآن للخزي والعار، خرج بها بعيدًا عن المدينة بحجة ما. والظاهر أنه لو رجع إلى مدينته بعد ولادة المولود فورًا للامه القوم قائلين: أنى لك هذا المولود ولم تمض على زواجك خمسة أشهر فقط؟ ولو أنه رجع بمريم ومولودها بعد تسعة أشهر بالضبط من الحمل لعرف القوم أنه ليس بمولود جديد، بل هو ابن خمسة أشهر. ولم يكن ثمة سبيل لإخفاء الأمر إلا أن يظل بعيدًا عن مدينته عدة سنوات لأن الصبي الكبير لا يمكن معرفة عمره بالتحديد. والواقع أن يوسف قد اضطر بالفعل للمكوث بعيدًا عن مدينته سنوات عديدة. وعندي أن فترة مكوثه خارج المدينة تتراوح ما بين ثمانية أو تسعة أعوام.

وباختصار، فإن يوسف لما زفَّ مريم إلى بيته كان قد مضى على حملها بعض الوقت، فلو أنه أخذها بعيدًا عن المدينة ومكث هنالك لبضع سنوات، لأمكن إخفاء الحمل، ولظن الناس أن ولادة عيسى كانت بحمل شرعي؛ أما إذا رجع بمريم بعد ولادة الوليد فورًا لانكشف السر حتمًا. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك