الردة بين الحق والحد

الردة بين الحق والحد

أحمد الخطيب

  • افتراء تهمة واختراع عقوبة.

 ___

افتراء تهمة واختراع عقوبة

إن الآفة التي ابتُليت بها الأديان قاطبة تمثلت في اختراع أشياء لا وجود لها في أصول الدين، ثم بناء منظومات فكرية متكاملة على مجموعة أوهام.. وبمرور الوقت تُفرز الأوهام القديمة أفكارا جديدة باطلة بالتبعية، فما بني على باطل لا يكون إلا باطلا، مهما حظي بمباركة العوام والدهماء والغوغاء. وبالنظر إلى مدونة الفقه الإسلامي، نرى أنها ابتُليت بهذه الآفة المشار إليها سلفا، آفة اختراع المصطلحات والأحكام.. علما أن أحكام كل شريعة إلهية إنما وُجدت لخدمة الإنسان، فردا وجماعة، فما لم يكن ثمة فائدة مرجوة أو ضرر يرتجى دفعه، فلا معنى لهذا االكلام الفقهي الفضفاض أصلا، بل هو محض لغو لا طائل من ورائه، بل هو إلى الفساد والإفساد أقرب.

وحد الردة المزعوم، والذي ابتدعه بعض الفقهاء، معرفين الردة بقولهم إنها تعني إنكار معلوم من الدين بالضرورة.. ذلك الحد هو من قبيل تلك المخترعات التي أفسدت منظومة الفقه الإسلامي. فعلى الرغم من أن كتاب التشريع الإسلامي الوحيد، وهو القرآن الكريم، لم يتطرق بتاتا إلى أية عقوبة دنيوية يجب أن توقع على من يبدل دينه، إلا أننا نتفاجأ بإفراد أبواب كاملة مطولة في كتب الفقه بهذا الخصوص. ونكرر.. كافة الحدود موضحة في مدونة التشريع (القرآن الكريم). فإذا كانت عقوبة الردة هي القتل، كما يزعمون، فلننظر إذن قول القرآن في هذا المقام.

الآيات القرآنية التي تتحدث عن ثنائية الكفر والإيمان، تتناولهما من باب التخيير المحض. يقول :

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (1).

ويقول   أيضا:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (2).

فإذا ما أجرينا مسحا كاملا للقرآن، بحثا عن آية واحدة تقرر عقوبة دنيوية على من يترك دينا ما، فسنخرج بنتيجة واحدة، وهي أن تبديل المرء لدينه ليس جريمة أصلا، وكيف يكون جريمة وقد جعل الله موضوع الدين محل اختيار، انطلاقا من قوله : … فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ   وبما أنه لا توجد جريمة، فالحديث عن العقوبة المتوهمة هو محض حمق وغباء.

ما خطب السامري؟!

الردة إذن ليست جريمة تصدر ضد فاعلها عقوبة أو يقام عليه حد. والشواهد القرآنية التي تدعم قولنا هذا هي من الكثرة بحيث يتعذر ردها. أبرزها آيات قرآنية تتيح للإنسان الحق في اختيار أي الطريقين: طريق الإيمان أو طريق الكفر.

والآن يأتي دور إيراد شواهد تاريخية. فمما سجله التاريخ من أبرز حوادث الردة الجماعية ما اقترفه السامري زمن نبي الله موسى ، إذ أغوى بني إسرائيل وقت غادرهم موسى لميقات ربه . لقد ردَّ السامري بني إسرائيل عن بكرة أبيهم في ذلك الوقت عن دينهم، ولم يسلم من فتنته سوى هارون. وتنقل لنا آيات سورة طه الجدال المحتدم الذي دار بين نبي الله موسى والسامري داعي الفتنة، يقول تعالى:

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا . (3)

بالإمعان في سياق آيات سورة طه، نتفاجأ بعدة أمور ينافس بعضها بعضا في الجمال..

فعوضا عن أن يوقع موسى عقوبة القتل على السامري جراء جريمته الشنعاء، فإن آيات القرآن المجيد تفاجئنا بأن موسى النبي يُعْلِم السامري بحقوقه، فيقول له:

فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ (4) ،

فهذا الموقف الذي تصوره آيات سورة طه يقف أمامه المرء مشدوها مندهشا من فرط الجمال والتحضر، فعلى الرغم من عِظم الخطب، إلا أن الشريعة الإلهية أقرت للمرتد حقوقه كاملة بادئ الأمر وقبل كل شيء. علما أن تعبير «لك» يفيد الحق الممنوح، كما في قوله تعالى:

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (5)،

ويقابله «عليك» الذي يراد منه الواجب أو العقوبة، فنقول مثلا: «عليك غرامة»، ويجمع التعبيرين في القرآن الكريم قوله :

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (6)

فالشاهد أن حديث موسى إلى السامري تضمن عرضا من موسى لحق السامري في أن يعتقد ما يشاء، وألا يمسه أحد بسوء.

الهوامش:

  1. (الكهف: 30)
  2. (البقرة: 257)
  3. (طه: 96-98)
  4. (طه: 98)
  5. (طه: 119)
  6. (البقرة: 287)
Share via
تابعونا على الفايس بوك